رسوله محصلا لهذه الفوائد الجليلة، ومميزا للكاذبين من الصادقين . ولهذا قال:
( وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )
اى : شك وشبهة ونفاق.
( وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا )
وهذا على وجه الحيرة والشك. والكفر منهم بآيات الله . وهذا وذاك من هداية الله لمن يهديه . وإضلاله لمن يضل ولهذا قال:
( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )
فمن هداه الله . جعل ما أنزله الله على رسوله رحمة في حقه . وزيادة في إيمانه ودينه . ومن أضله . جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه وحيره . وظلمة في حقه . والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم . فإنه لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم ( إلَّا هُوَ ) فإذا كنتم جاهلين بجنوده . وأخبركم بها العليم الخبير . فعليكم أن تصدقوا خبره . من غير شك ولا ارتياب .
( وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ )
اى: وما هذه الموعظة والتذكار مقصودا به العبث واللعب . وإنما المقصود به أن يتذكر [به] البشر ما ينفعهم فيفعلونه . وما يضرهم فيتركونه.
[32 ـ 56] (( كَلَّا وَالْقَمَرِ ۞ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ۞ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ۞ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ۞ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ۞ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ۞ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۞ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ۞ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ۞ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ۞ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۞ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۞ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۞ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۞ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ۞ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ۞ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ۞ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ۞ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ۞ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ۞ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ۞ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ۞ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ۞ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ۞ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ))
{كَلَّا} هنا بمعنى: حقا. او بمعنى {ألا} الاستفتاحية. فأقسم تعالى بالقمر. وبالليل وقت إدباره . والنهار وقت إسفاره. لاشتمال المذكورات على آيات الله العظيمة. الدالة على كمال قدرة الله وحكمته. وسعة سطانه. وعموم رحمتة . وإحاطة علمه. والمقسم عليه قوله: {إِنَّهَا} اى النار ( لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) اى : لإحدى العظائم الطامة والأمور الهامة . فإذا أعلمناكم بها. وكنتم على بصيرة من أمرها . فمن شاء منكم أن يتقدم . فيعمل بما يقربه من ربه . ويدنيه من رضاه . ويزلفه من دار كرامته . او يتأخر [عما خلق له و] عما يحبه الله [ويرضاه]، فيعمل بالمعاصي، ويتقرب إلى نار جهنم، كما قال تعالى:
( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر ) الآية.
( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَت )
من أعمال السوء وأفعال الشر ( رَهِينَةٌ )بها موثقة بسعيها، قد ألزم عنقها، وغل في رقبتها، واستوجبت به العذاب.
( الَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ )
فإنهم لم يرتهنوا، بل أطلقوا وفرحوا
( فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ )
اى : في جنات قد حصل لهم بها جميع مطلوباتهم . وتمت لهم الراحة والطمأنينة. حتى أقبلوا يتساءلون . فأفضت بهم المحادثة .أن سألوا عن المجرمين . اى: حال وصلوا إليها. وهل وجدوا ما وعدهم الله تعالى؟ فقال بعضهم لبعض: [هل أنتم مطلعون عليهم] فاطلعوا عليهم في وسط الجحيم يعذبون، فقالوا لهم:
( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ )
اى: اى شيء أدخلكم فيها؟ وبأي: ذنب أستحققتموهــا؟
فــ ( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ )
فلا إخلاص للمعبود، [ولا إحسان] ولا نفع للخلق المحتاجين.
( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ )
اى : نخوض بالباطل . ونجادل به الحق .
( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ )
هذا آثار الخوض بالباطل . [وهو] التكذيب بالحق . ومن أحق الحق، يوم الدين . الذي هو محل الجزاء على الأعمال . وظهور ملك الله وحكمه العدل لسائر الخلق.
فاستمرينا على هذا المذهب الفاسد
( حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ )
اى: الموت . فلما ماتوا على الكفر تعذرت حينئذ عليهم الحيل . وانسد في وجوههم باب الأمل ( فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ )
لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى . وهؤلاء لا يرضى الله أعمالهم . فلما بين الله مآل المخالفين . ورهب مما يفعل بهم، عطف على الموجودين بالعتاب واللوم، فقال:
( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ )
اى: صادين غافلين عنها. {كَأَنَّهُم} في نفرتهم الشديدة منها {حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} أي: كأنهم حمر وحش نفرت فنفر بعضها بعضا، فزاد عدوها .
( فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ )
اى : من صائد ورام يريدها، أو من أسد ونحوه، وهذا من أعظم ما يكون من النفور عن الحق، ومع هذا الإعراض وهذا النفور، يدعون الدعاوى الكبار.
فـــ ( يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً )
نازلة عليه من السماء . يزعم أنه لا ينقاد للحق إلا بذلك . وقد كذبوا . فإنهم لو جاءتهم كل آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . فإنهم جاءتهم الآيات البينات التي تبين الحق وتوضحه . فلو كان فيهم خير لآمنوا . ولهذا قال: {كَلَّا} أن نعطيهم ما طلبوا . وهم ما قصدوا بذلك إلا التعجيز .
( بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ )
فلو كانوا يخافونها لما جرى منهم ما جرى.
( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ )
الضمير إما أن يعود على هذه السورة ) أو على ما اشتملت عليه [من] هذه الموعظة .
( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ
لأنه قد بين له السبيل . ووضح له الدليل.
( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )
فإن مشيئته نافذة عامة . لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير . ففيها رد على القدرية . الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله . والجبرية الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة . ولا فعل حقيقة . وإنما هو مجبور على أفعاله . فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة وفعلا . وجعل ذلك تابعا لمشيئته .
( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)
اى: هو أهل أن يتقى ويعبد . لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له . وأهل أن يغفر لمن اتقاه واتبع رضاه.
تم تفسير سورة المدثر ولله الحمد
اختكم فى الله/ بالماس اشترونى
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات: